كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية: {فارغًا}. لا عقل فيه ولا وعي ولا قدرة على نظر أو تصريف!.
{إِن كادت لتبدي به}. وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا أضعته. أنا أضعت طفلي. أنا ألقيت به في اليم اتباعًا لهاتف غريب!.
{لولا أن ربطنا على قلبها}. وشددنا عليه وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود.
{لتكون من المؤمنين}. المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه.
ولم تسكت أم موسى عن البحث والمحاولة!.
{وقالت لأخته قصيه}. اتبعي أثره، واعرفي خبره، إن كان حيًا، أو أكلته دواب البحر أو وحوش البر، أو أين مقره ومرساه؟
وذهبت أخته تقص أثره في حذر وخفية، وتتلمس خبره في الطرق والأسواق. فإذا بها تعرف أين ساقته القدرة التي ترعاه؛ وتبصر به عن بعد في أيدي خدم فرعون يبحثون له عن ثدي للرضاع: {فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون}.
إن القدرة التي ترعاه تدبر أمره، وتكيد به لفرعون وآله؛ فتجعلهم يلتقطونه، وتجعلهم يحبونه، وتجعلهم يبحثون له عن ظئر ترضعه، وتحرم عليه المراضع، لتدعهم يحتارون به؛ وهو يرفض الثديّ كلما عرضت عليه، وهم يخشون عليه الموت أو الذبول! حتى تبصر به أخته من بعيد، فتعرفه وتتيح لها القدرة فرصة لهفتهم على مرضع، فتقول لهم: {هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون}؟ فيتلقفون كلماتها، وهم يستبشرون، يودون لو تصدق فينجو الطفل العزيز المحبوب!
وينتهي المشهد الرابع؛ فنجدنا أمام المشهد الخامس والأخير في هذه الحلقة. وقد عاد الطفل الغائب لأمه الملهوفة. معافى في بدنه، مرموقًا في مكانته، يحميه فرعون، وترعاه امرأته، وتضطرب المخاوف من حوله وهو آمن قرير. وقد صاغت يد القدرة الحلقة الأولى من تدبيرها العجيب: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون}.
ويسكت سياق القصة بعد هذا عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى عليه السلام والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله.
فلا نعلم ماذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه. ولا كيف تربى في قصر فرعون. ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة. ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه بعد أن شب وكبر إلى أن تقع الأحداث التالية في الحلقة الثانية. ولا كيف كانت عقيدته، وهو الذي يصنع على عين الله، ويعد لوظيفته، في وسط عباد فرعون وكهنته.
يسكت سياق القصة عن كل هذا ويبدأ الحلقة الثانية مباشرة حين بلغ أشده واستوى، فقد آتاه الله الحكمة والعلم، وحزاه جزاء المحسنين: {ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكمًا وعلما وكذلك نجزي المحسنين}.
وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية. والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي. وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين. فهل ظل موسى في قصر فرعون، ربيبًا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن؟ أم إنه افترق عنهما، واعتزل القصر، ولم تسترح نفسه للحياة في ظل تلك الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة كنفس موسى عليه السلام؟ وبخاصة أن أمه لابد أن تكون قد عرّفته من هو ومن قومه وما ديانته.
وهو يرى كيف يسام قومه الخسف البشع والظلم الشنيع، والبغي اللئيم؛ وهو يرى أبشع صورة للفساد الشائع الأثيم.
ليس لدينا من دليل. ولكن سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئًا من هذا كما سيجيء؛ والتعقيب على إتيانه الحكمة والعلم: {وكذلك نجزي المحسنين} يشي كذلك بأنه أحسن فأحسن الله إليه بالحكمة والعلم: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين}.
ودخل المدينة، والمفهوم أنها العاصمة وقتئذ، فمن أي مكان جاء فدخلها؟ وهل كان من القصر في عين شمس؟ أم إنه كان قد اعتزل القصر والعاصمة، ثم دخل إليها على حين غفلة من أهلها، في وقت الظهيرة مثلًا حين تغفو العيون؟
لقد دخل المدينة على كل حال {فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه}.
وقد كان أحدهما قبطيًا يقال إنه من حاشية فرعون، ويقال إنه طباخ القصر. والآخر إسرائيلي. وكانا يقتتلان. فاستغاث الإسرائيلي بموسى مستنجدًا به على عدوهما القبطي. فكيف وقع هذا؟ كيف استغاث الإسرائيلي بموسى ربيب فرعون على رجل من رجال فرعون؟ إن هذا لا يقع إذا كان موسى لا يزال في القصر، متبنى، أو من الحاشية.
إنما يقع إذا كان الإسرائيلي على ثقة من أن موسى لم يعد متصلًا بالقصر، وأنه قد عرف أنه من بني إسرائيل. وأنه ناقم على الملك والحاشية، منتصر لقومه المضطهدين. وهذا هو الأنسب لمن في مقام موسى عليه السلام فإنه بعيد الاحتمال أن تطيق نفسه البقاء في مستنقع الشر والفساد..
{فوكزه موسى فقضى عليه}.
والوكز الضرب بجمع اليد. والمفهوم من التعبير أنها وكزة واحدة كان فيها حتف القبطي. مما يشي بقوة موسى وفتوته، ويصور كذلك انفعاله وغضبه؛ ويعبر عما كان يخالجه من الضيق بفرعون ومن يتصل به.
ولكن يبدو من السياق أنه لم يكن يقصد قتل القبطي، ولم يعمد إلى القضاء عليه. فما كاد يراه جثة هامدة بين يديه حتى استرجع وندم على فعلته، وعزاها إلى الشيطان وغوايته؛ فقد كانت من الغضب، والغضب شيطان، أو نفخ من الشيطان: {قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}.
ثم استطرد في فزع مما دفعه إليه الغضب، يعترف بظلمه لنفسه أن حملها هذا الوزر، ويتوجه إلى ربه، طالبًا مغفرته وعفوه: {قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي}.
واستجاب الله إلى ضراعته، وحساسيته، واستغفاره: {فغفر له إنه هو الغفور الرحيم}.
وكأنما أحس موسى بقلبه المرهف وحسه المتوفز في حرارة توجهه إلى ربه، أن ربه غفر له. والقلب المؤمن يحس بالاتصال والاستجابة للدعاء، فور الدعاء، حين يصل إرهافه وحساسيته إلى ذلك المستوى؛ وحين تصل حرارة توجهه إلى هذا الحد، وارتعش وجدان موسى عليه السلام وهو يستشعر الاستجابة من ربه، فإذا هو يقطع على نفسه عهدًا، يعده من الوفاء بشكر النعمة التي أنعمها عليه ربه: {قال رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيرًا للمجرمين}.
فهو عهد مطلق ألا يقف في صف المجرمين ظهيرًا ومعينًا. وهو براءة من الجريمة وأهلها في كل صورة من صورها. حتى ولو كانت اندفاعًا تحت تأثير الغيظ، ومرارة الظلم والبغي.
ذلك بحق نعمة الله عليه في قبول دعائه؛ ثم نعمته في القوة والحكمة والعلم التي آتاه الله من قبل.
وهذه الارتعاشة العنيفة، وقبلها الاندفاع العنيف، تصور لنا شخصية موسى عليه السلام شخصية انفعالية، حارة الوجدان، قوية الاندفاع. وسنلتقي بهذه السمة البارزة في هذه الشخصية في مواضع أخرى كثيرة.
بل نحن نلتقي بها في المشهد الثاني في هذه الحلقة مباشرة: {فأصبح في المدينة خائفًا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}.
لقد انتهت المعركة الأولى بالقضاء على القبطي، وندم موسى على فعلته، وتوجهه إلى ربه، واستغفاره إياه، ومغفرته له، وعهده على نفسه ألا يكون ظهيرًا للمجرمين.
ومر يوم وأصبح في المدينة خائفًا من انكشاف أمره، يترقب الافتضاح والأذى. ولفظ {يترقب} يصور هيئة القلق الذي يتلفت ويتوجس، ويتوقع الشر في كل لحظة، وهي سمة الشخصية الانفعالية تبدو في هذا الموقف كذلك. والتعبير يجسم هيئة الخوف والقلق بهذا اللفظ، كما أنه يضخمها بكلمتي {في المدينة} فالمدينة عادة موطن الأمن والطمأنينة، فإذا كان خائفًا يترقب في المدينة، فأعظم الخوف ما كان في مأمن ومستقر!
وحالة موسى هذه تلهم أنه لم يكن في هذا الوقت من رجال القصر. وإلا فما أرخص أن يزهق أحد رجال القصر نفسًا في عهود الظلم والطغيان! وما كان ليخشى شيئًا فضلًا على أن يصبح {خائفًا يترقب} لو أنه كان ما يزال في مكانه من قلب فرعون وقصره.
وبينما هو في هذا القلق والتوجس إذا هو يطلع: {فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه}!
إنه صاحبه الإسرائيلي الذي طلب بالأمس نصرته على القبطي. إنه هو مشتبكًا مع قبطي آخر؛ وهو يستصرخ موسى لينصره؛ ولعله يريد منه أن يقضي على عدوهما المشترك بوكزة أخرى!
ولكن صورة قتيل الأمس كانت ما تزال تخايل لموسى. وإلى جوارها ندمه واستغفاره وعهده مع ربه. ثم هذا التوجس الذي يتوقع معه في كل لحظة أن يلحقه الأذى. فإذا هو ينفعل على هذا الذي يستصرخه، ويصفه بالغواية والضلال: {قال له موسى إنك لغوي مبين}.
غوي بعراكه هذا الذي لا ينتهي واشتباكاته التي لا تثمر إلا أن تثير الثائرة على بني إسرائيل. وهم عن الثورة الكاملة عاجزون، وعن الحركة المثمرة ضعفاء. فلا قيمة لمثل هذه الاشتباكات التي تضر ولا تفيد.
ولكن الذي حدث أن موسى بعد ذلك انفعلت نفسه بالغيظ من القبطي، فاندفع يريد أن يقضي عليه كما قضى على الأول بالأمس! ولهذا الاندفاع دلالته على تلك السمة الانفعالية التي أشرنا إليها، ولكن له دلالته من جانب آخر على مدى امتلاء نفس موسى عليه السلام بالغيظ من الظلم، والنقمة على البغي، والضيق بالأذى الواقع على بني إسرائيل، والتوفز لرد العدوان الطاغي، الطويل الأمد، الذي يحتفر في القلب البشري مسارب من الغيظ وأخاديد.
{فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارًا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}.
وإنه ليقع حينما يشتد الظلم، ويفسد المجتمع، وتختل الموازين، ويخيم الظلام، أن تضيق النفس الطيبة بالظلم الذي يشكل الأوضاع والقوانين والعرف؛ ويفسد الفطرة العامة حتى ليرى الناس الظلم فلا يثورون عليه، ويرون البغي فلا تجيش نفوسهم لدفعه؛ بل يقع أن يصل فساد الفطرة إلى حد إنكار الناس على المظلوم أن يدفع عن نفسه ويقاوم؛ ويسمون من يدفع عن نفسه أو غيره {جبارًا في الأرض} كما قال القبطي لموسى.
ذلك أنهم ألفوا رؤية الطغيان يبطش وهم لا يتحركون، حتى وهموا أن هذا هو الأصل، وأن هذا هو الفضل، وأن هذا هو الأدب، وأن هذا هو الخلق! وأن هذا هو الصلاح! فإذا رأوا مظلومًا يدفع الظلم عن نفسه، فيحطم السياج الذي أقامه الطغيان لحماية الأوضاع التي يقوم عليها، إذا رأوا مظلومًا يهب لتحطيم ذلك السياج المصطنع الباطل ولولوا ودهشوا، وسمَّوا هذا المظلوم الذي يدفع الظلم سفاكًا أو جبارًا، وصبوا عليه لومهم ونقمتهم. ولم ينل الظالم الطاغي من نقمتهم ولومهم إلا القليل! ولم يجدوا للمظلوم عذرًا حتى على فرض تهوره من ضيقه بالظلم الثقيل!